فصل: باب إِذَا حَمَلَ رَجُلاً عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ

وَقَالَتْ أَسْمَاءُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ أَبِى عَتِيقٍ‏:‏ وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِى عَائِشَةَ بِالْغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِى بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ فَهُوَ لَكُمَا‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْل، أُتِىَ النَّبِىّ عليه السَّلام بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ‏:‏ ‏(‏إِنْ أَذِنْتَ لِى أَعْطَيْتُ هَؤُلاَءِ‏)‏، قَالَ‏:‏ مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَلَّهُ فِى يَدِهِ‏.‏

عرض البخارى فى هذا الباب والبابين بعده الرد على أبى حنيفة فى إبطاله هبة المشاع، فإنه يقول‏:‏ إذا وهب رجل دارًا لرجلين، أو متاعًا، وذلك المتاع مما ينقسم فقبضاه جميعًا، فإن ذلك لا يجوز إلا أن يقسم كل واحد منهما حصته؛ لأن الهبة من شرط صحتها عنده القبض‏.‏

وذهب مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، إلى أن هبة الواحد للجماعة جائزة، وقالوا‏:‏ لو وهب شقصًا من دار أو عبد جاز، وإن لم يكن مقسومًا، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة من أجاز ذلك أن النبى سأل الغلام أن يهب نصيبه من اللبن للأشياخ، ومعلوم أن نصيبه منه كان مشاعًا فى اللبن، غير متميز ولا منفصل فى القدح، وهذا خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة، فلا معنى لقوله‏.‏

باب الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ الْمَقْسُومَةِ

وَقَدْ وَهَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ‏.‏- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا‏:‏ لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَل مِنْ سِنِّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطُوهَا إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فِى الْمَسْجِدِ، فَقَضَانِى وَزَادَنِى‏.‏

وقال شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارب، عَنْ جَابِر‏:‏ فَوَزن لِىّ فَأَرجحَ، فَمَا زَال مِنْهَا شَىءٌ، حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلِ الشَّام يَوْمَ الْحَرَّةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلِ، أُتِىَ النَّبِىّ بِشَرَابٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخٌ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وقد تقدم القول فى قبض الهبات، وما للعلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته‏.‏

وأما الهبة غير المقسومة، فهى هبة المشاع، واختلف العلماء فيها، فقال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ هبة المشاع جائزة، ويتأتى فيها القبض كما يجوز فيها البيع، وسواء كان المشاع مما ينقسم كالدور والأرضين، أو مما لا ينقسم كالعبد والثياب والجواهر، وسواء كان مما يقبض بالتخلية، أو مما يقبض بالنقل والتحويل‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان المشاع مما ينقسم لم يجز هبة شىء منه مشاعًا، وإن كان المشاع مما لا ينقسم كالعبد واللؤلؤ والثوب، فإنه تجوز هبته، وحجة أصحاب أبى حنيفة أن الهبات لا تصح عندهم إلا بالقبض، والمشاع لا يتأتى فيه القبض إلا بقبض الجميع، ومتى كلف الشريك هذا أضر به، وله أن يمتنع من ذلك، واحتجوا بأن أبا بكر الصديق وهب لابنته جداد عشرين وسقًا فلم تقبضه، فقال‏:‏ لو كنت حزتيه لكان لك، وهذا كان بحضرة الصحابة من غير خلاف‏.‏

وحجة من أجاز هبة المشاع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهب حقه من غنائم حنين لهوازن، وحقه من ذلك مشاع لم يتعين، وأيضًا حديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى للذى أسلفه الجمل بأفضل من سنه، ووجه الدلالة منه أن ثمن ذلك الفضل مشاع فى ثمن السن التى كانت تلزمه، وقد وهب ذلك عليه السَّلام وكذلك قول جابر‏:‏ فقضانى وزادنى‏.‏

وقوله‏:‏ فوزن لى فأرجح، فعلم أن تلك الزيادة وذلك الرجحان لم يكن من الثمن، وإنما كان هبة، ولم يكن متميزًا بل كان مشاعًا، وهبة النبى صلى الله عليه وسلم وحديث الغلام والأشياخ بين فى ذلك أيضًا؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام استوهب الغلام نصيبه من الشراب، وكان ذلك مشاعًا غير متميز ولا مقسوم، ولا يعرف ما كان يشرب مما كان يترك للأشياخ‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ومن أجاز هبة ما لا ينقسم فبأن يجيز هبة ما ينقسم أولى، وأما احتجاجهم بقول أبى بكر لابنته‏:‏ لو كنت حزتيه لكان ذلك، فهو حجة عليهم؛ لأنه وهب لها جداد عشرين وسقًا من أوساق كثيرة، وهذا مشاع بينهم، فدل هذا على جواز هبة المشاع؛ لأنه لو لم يجز لم يفعله‏.‏

وقوله‏:‏ لو كنت حزتيه لكان لك، لا يدل على أن ما عقده من الهبة لم يجز، وإنما قال ذلك لئلا يقتدى به من يريد الهروب بماله من الميراث، ولما لم تحزه عائشة فى صحته لم ينفذه لها فى مرضه؛ لأن عطايا المريض المقبوضة هى فى ثلثه كالوصايا، والوصية للوارث لا تجوز، ولم يختلف مالك وأبو حنيفة والشافعى أن عطايا المريض للأجنبى جائزة فى ثلثه، فلم يخالف مالك من حديث أبى بكر شيئًا، وأبو حنيفة خالف أوله، وتأول فى آخره ما لم يجامع عليه‏.‏

باب إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ أَوْ رَجُلٌ لِجَمَاعَة مَقسُومًا وَغَيْرِ مَقسُوم جَازَ

- فيه‏:‏ مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ، وَإِمَّا الْمَالَ‏)‏، فَاختَارُوا السبَّى‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما قول البخارى‏:‏ باب إذا وهب جماعة لقوم، فإن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وهبوا هوازن السبى وهو مشاع؛ لأن هوازن لم يقسموه بينهم، ولا حاز كل واحد منهم أهله إلا بعد أن حصل فى ملكهم، وبعد أن نفذت هبة أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لهم فى السبى، ولم يكن لأحد منهم رجوع فى شىء من ذلك؛ لأنهم طيبوا هبتهم، وأمضوها على شرط ألا يقبلوا العوض من النبى صلى الله عليه وسلم فيها، فهذا يرد قول أبى حنيفة أن هبة المشاع الذى تتأتى فيه القسمة لا تجوز؛ لأن هوازن إنما حازوا أهلهم بعد تملكهم لهم، فهذا هبة الجماعة للجماعة‏.‏

وأما قول البخارى فى الترجمة‏:‏ أو رجل لجماعة فإن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وإن كانوا قد طابت نفوسهم بهبة السبى، فإنما فعلوا ذلك من أجل شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم عندهم فيه، وأنه وعد بالعوض من لم تطب نفسه بالهبة، فكأنه هو الواهب إذ كان السبب فى الهبة، وأيضًا فإنه عَلَيْهِ السَّلام كان له حق فى جملة السبى، فصح قول البخارى فى جواز هبة الواحد للجماعة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏مقسومًا أو غير مقسوم‏)‏، فإنما أراد أن المشاع والمقسوم سواء فى جواز الهبة، فلذلك ما ينقسم وما لا ينقسم سواء فى جواز الهبة‏.‏

باب مَنْ أُهْدِىَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ

وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاؤهُ وَلَمْ يَصِحَّ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ عليه السَّلام قَالَ لِلذِى جَاءهُ يَتَقَاضَاهُ‏:‏ ‏(‏أعطوه أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ، عَلَى بَكْرٍ صعْبٍ لِعُمَرَ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ لا يتقدم النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أحَدٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بِعْنِيهِ‏)‏، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ هُوَ لَكَ يا رسول اللّه، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ‏)‏‏.‏

لو صح قوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏جلساؤكم شركاؤكم‏)‏، لكان معناه الندب عند الفقهاء فيما خف من الهدايا، وما جرت العادة بترك المشاحة فيه، وأما ما كان له قيمة من الهدايا مثل‏:‏ الدور، والعقار، والمال الكثير، فصاحبها أحق بها على ما ترجم به البخارى، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أن يعطى الذى تقاضاه الجمل أفضل من سنه التى كانت عليه، ولم يشاركه أحد ممن كان بحضرته فى ذلك الفضل، وكذلك وهب عَلَيْهِ السَّلام الجمل لابن عمر وهو مع الناس، فلم يستحق أحد منهم فيه شركة مع ابن عمر، فعلى هذا مذهب الفقهاء‏.‏

وروى عن أبى يوسف القاضى أن الرشيد أهدى إليه مالاً كثيرًا، فورد عليه وهو جالس مع أصحابه، فقال له أحدهم‏:‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جلساؤكم شركاؤكم‏)‏، فقال له أبو يوسف‏:‏ إن هذا الحديث لم يرد فى مثل هذا، وإنما ورد فيما خف من الهدايا، وفيما يؤكل ويشرب مما تطيب النفوس ببذله والسماحة به‏.‏

باب إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ له

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ، وَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، فَقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا عُمَر، بِعْنِيهِ‏)‏، فَبْاعَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ‏)‏‏.‏

ولا خلاف بين العلماء أن من كان عنده الشىء الموهوب له، فإن ذلك قبض صحيح، وكذلك حكم الوديعة والرهن ومال القراض والدين، يهبها أربابها لمن هى فى يديه، أن ذلك كله حيازة صحيحة لا تحتاج إلى غيرها، وقد تقدم حكم قبض الهبات قبل هذا، فلا معنى لتكريره‏.‏

باب هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لِبَسُهُ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، رَأَى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَتَلبِسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِى الآخِرَةِ‏)‏، ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ، فَأَعْطَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقَالَ‏:‏ أَكَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِى حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَتَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِىٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ فَاطِمَةَ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا‏)‏، فَقَالَ‏:‏ مَا لِى وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِىٌّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ‏:‏ لِيَأْمُرْنِى فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَالَ‏:‏ تُرْسِلُى بِهِ إِلَى فُلاَنٍ، أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَلِىُّ، أَهْدَى لَىّ النَّبِىُّ عليه السَّلام حُلَّةَ سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى‏.‏

هدية ما يكره لبسه مباحة؛ لأن ملكه جائز، ولصاحبه التصرف فيه بالبيع والهبة، لمن يجوز له لباسه مثل النساء والصبيان، وإنما كره من الحرير لباسه للرجال خاصة دون ملكه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما كره النبى صلى الله عليه وسلم الحرير لابنته؛ لأنها ممن يرغب لها فى الآخرة كما يرغب لنفسه، ولا يرضى لها تعجيل طيباتها فى الحياة الدنيا، فدل هذا على أن النهى عن الحرير إنما هو من جهة السرف‏.‏

لأن الحديث الذى يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى تحريم الحرير قد سألت عنه أبا محمد الأصيلى، وأوقفته على لفظة حرام، فقال لى‏:‏ لا تصح لفظة حرام البتة، وإن صحت فإنما معناها حرام تحرمه السنة، وحرام دون حرام، وهو كقوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏كل ذى ناب من السباع حرام‏)‏‏.‏

وفى ذلك الحديث حل لإناثها، فقد كرهه لابنته وهو حلال، فكذلك كرهه للرجال من أجل السرف، وقوله فى حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏ما لى وللدنيا‏؟‏‏)‏، دليل قاطع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إنما يلبسها من لا خلاق له فى الآخرة‏)‏، فإنما يريد بذلك، والله أعلم، أنها لباس الكفار فى الدنيا ومن لا حظ له فى الآخرة، فنهى عَلَيْهِ السَّلام عن مشابهتهم واستعمال زيهم، والله أعلم، وسأستقصى مذاهب العلماء فى هذه المسألة فى كتاب اللباس، إن شاء الله‏.‏

وقال أبو عبد الله، أخو المهلب‏:‏ وقول على‏:‏ فرأيت الغضب فى وجهه، يدل على أن النهى عن الحرير على غير التحريم، وإنما هو على الكراهية، ولو كان تحريمًا لما عرف على الكراهية إلا من نهيه لا بدليل من وجهه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا ينبغى هذا للمتقين‏)‏، دليل آخر، ولو كان حرامًا لكان المتقى فيه والمسىء فيه واحدًا، ولكنه كما قال تعالى فى المتعة‏:‏ ‏(‏حقًا على المتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 241‏]‏، و‏)‏ حقًا على المحسنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحملت طائفة الآثار المروية عن النبى عليه السَّلام فى النهى عن لباس الحرير على التحريم، ولم يأت عنه ما يعارضها إلا ما يخصها من جواز لباسه فى الحرب وعند التداوى، وما عدا هذين الوجهين فباق على التحريم، ومن جعل تحريم الحرير كتحريم كل ذى ناب من السباع، فذلك دليل على التحريم؛ لأن جمهور الأمة على أن تحريم كل ذى ناب من السباع على التحريم البين الذى هو ضد التحليل، فكيف يحتج هذا القائل بما يخالفه فيه أكثر الأمة‏.‏

باب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ، أَوْ جَبَّارٌ، فَقَالَ‏:‏ أَعْطُوهَا هاجَرَ‏)‏، وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ‏.‏

وقال أَبُو حُمَيْدٍ‏:‏ أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أُهْدِىَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا‏)‏‏.‏

وقال سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ‏:‏ أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ يَهُودِيَّةً أهدت إلى النَّبِىَّ عليه السَّلام شَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِىءَ بِهَا، فَقِيلَ‏:‏ أَلاَ نَقْتُلُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ‏)‏، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِى لَهَوَاتِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام ثَلاَثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ‏؟‏‏)‏، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً‏)‏، أَوْ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمْ هِبَةً‏؟‏‏)‏، قَالَ‏:‏ لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِى الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ، إِلاَ قَدْ حَزَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاه، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ، أَوْ كَمَا قَالَ‏.‏

وثبت عن النبى بهذه الآثار وغيرها أنه قبل هدايا المشركين، وأكثر العلماء على أنه لا يجوز ذلك لغير النبى صلى الله عليه وسلم من الأمراء إذا كان قبولها منهم على جهة الاستبداد بها دون رعيته؛ لأنه إنما أهدى له ذلك من أجل أنه أمير الجيش، وليس النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك كغيره؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من أموال الكفار من غير قتال‏.‏

وقد اختلف العلماء فى هدايا المشركين، فقال ابن حبيب‏:‏ ما أهداه الحربى إلى والى الجيش كان الوالى الأعظم أو من دونه فهو مغنم؛ لأنه لم ينله إلا بهم، وفيه الخمس، وهو قول الأوزاعى، ومحمد بن الحسن‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وسمعت أهل العلم يقولون‏:‏ إنما والى الجيش فى سهمانه كرجل منهم له ما لهم وعليه ما عليهم‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ ما أهدى إلى والى الجيش فهو له خاصة، وكذلك ما يعطاه الرسول‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ ولو أهدى العدو إلى رجل من المسلمين ليس بقائد ولا أمير هدية، فلا بأس أن يأخذها، وتكون له دون العسكر، وهو قول الأوزاعى، وابن القاسم صاحب مالك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أن عياض بن حمار أهدى إلى النبى صلى الله عليه وسلم هدية، أو ناقة، فقال‏:‏ ‏(‏أسلمت‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ لا، فلم يقبلها، وقال‏:‏ ‏(‏إنى نهيت عن زبد المشركين‏)‏، رواه شعبة، عن قتادة، عن أبى العلاء يزيد بن عبد الله، عن عياض بن حمار، وهذا معارض لما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قبول هدايا المشركين، فهو ناسخ لها‏.‏

قيل‏:‏ يحتمل أن يكون ترك قبول هديته لما فى ذلك من التأنيس والتحاب، ومن حاد الله وشاقه حرم على المؤمنين موالاته، ألا ترى أنه عَلَيْهِ السَّلام جعل علة ردها لما لم يسلم، وقد روى معمر، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال‏:‏ جاء ملاعب الأسنة إلى النبى صلى الله عليه وسلم بهدية، فعرض عليه النبى صلى الله عليه وسلم الإسلام فأبى أن يسلم، فقال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏فإنى لا أقبل هدية مشرك‏)‏‏.‏

فدل هذا الحديث على مثل ما دل عليه حديث عياض، وبان به أن قبول النبى صلى الله عليه وسلم هدية من قبل هديته من المشركين إنما كان على وجه التأنيس له والاستئلاف، ورجاء إنابتهم إلى الإسلام، ومن يئس من إسلامه منهم رد هديته‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ قبول النبى صلى الله عليه وسلم هدايا المشركين إنما كان نظرًا منه للمسلمين وعودًا بنفعه عليهم، لا إيثارًا منه نفسه به دونهم، وللإمام قبول هدايا أهل الشرك وغيرهم، إذا كان ما يقبله من ذلك للمسلمين، وأما رده هدية من رد هديته منهم، فإنما كان ذلك من أجل أنه أهداها له فى خاصة نفسه، فلم ير قبولها، تعريفًا منه لأئمة أمته من بعده أنه ليس له قبول هدية أحد لخاصة نفسه‏.‏

ويبين ذلك ما رواه ابن عوف، عن الحسن، قال‏:‏ جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم يقال له‏:‏ عياض، كانت بينه وبين النبى صلى الله عليه وسلم صداقة قبل أن يبعث بهديته، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسلمت‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏فإنه لا يحل لنا زبد المشركين‏)‏‏.‏

قال الحسن‏:‏ الزبد‏:‏ الرفد، ذكره ابن سلام‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن ظن ظان أن قوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لا تقبل هدية مشرك‏)‏، وأن ما رواه عطاء، عن جابر، عن النبى عليه السَّلام أنه قال‏:‏ ‏(‏هدايا الإمام غلول‏)‏، أن ذلك على العموم، فقد ظن خطأ‏.‏

وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن الله تعالى قد أباح للمسلمين أموال أهل الشرك بالقهر والغلبة لهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآية، فهو بطيب أنفسهم لا شك أحلى وأطيب‏.‏

والدليل على صحة قولنا ما رواه شعبة، عن على بن زيد، عن أبى المتوكل الناجى، عن أبى سعيد الخدرى، أن ملك الروم أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جرة من زنجبيل، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فأعطى كل رجل قطعة‏.‏

وما رواه قرة، عن الحسن، قال‏:‏ أهدى أكيدر دومة الجندل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جرة فيها مَن، بالنبى عَلَيْهِ السَّلام وأهله إليها حاجة، فلما قضى الصلاة أمر طائفًا فطاف بها على أصحابه، فجعل الرجل يدخل يده فيخرج فيأكل، فأتى على خالد بن الوليد فأدخل يده، فقال‏:‏ يا رسول الله، أخذ القوم مرة مرة، وأخذت مرتين، فقال‏:‏ ‏(‏كل وأطعم أهلك‏)‏‏.‏

وأهدى البون ملك الروم إلى مسلمة بن عبد الملك لؤلؤتين وهو بالقسطنطينية، فشاور أهل العلم، من ذلك الجيش فقالوا‏:‏ لم يهدها إليك إلا لموقعك من هذا الجيش، فنرى أن تبيعها وتقسم ثمنها على هذا الجيش، فثبت بفعل النبى صلى الله عليه وسلم وقول أهل العلم من بعده أن الذى كان من رد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية من رد من المشركين كان لما وصف لك، إذ من المحال اجتماع الرد والقبول فى الشىء الواحد والحال الواحدة، فبان أن سبب قبوله عليه السَّلام ما قبل غير سبب رده ما رد منه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن آخر فعله كان ناسخًا للآخر‏.‏

قيل له‏:‏ لو كان كذلك لكان مبينًا، وكان على الناس دليل مفرق بينه وبين المنسوخ، إذ غير جائز أن يكون شىء من حكم الله تعالى غير معلوم الواجب عنه على عباده إما بنص عليه، أو لأدلة منصوبة لهم على اللازم فيه‏.‏

فبان بهذا أن سبيل الأئمة القائمين بعد النبى صلى الله عليه وسلم بأمر الأمة سبيله عليه السَّلام فى أن من أهدى إليه ملك من ملوك أهل الحرب هدية فله قبولها وصرفها حيث ما جعل الله ما حول المسلمين بغير إيجاف منهم عليه بخيل ولا ركاب‏.‏

وإن كان الذى أهدى إليه وهو منتح مع جيش من المسلمين بعقدة دارهم محاصرًا لهم، فله قبوله وصرفه فيما جعل الله من أموالهم مصروفًا فيما نيل بالقهر والغلبة لهم، وذلك ما أوجفوا عليه بالخيل والركاب، كالذى فعل النبى صلى الله عليه وسلم بأموال قريظة إذ نزلوا على حكم سعد لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين لهم‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث أبى حميد‏:‏ مكافأة المشرك على هديته؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أهدى له بردًا‏.‏

وفيه‏:‏ جواز تأمير المسلمين المشرك الذمى على قومه لما فى ذلك من طوعهم له وانقيادهم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ كان صاحب أيلة من أهل الجزية بالصلح الذى جرى بينه وبين النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه تولية البحر، وأنه عمل من الأعمال، وفيه جواز نسبة العمل إلى من أمر به؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏وكتب له ببحرهم‏)‏، وهو عَلَيْهِ السَّلام لم يكتب كما قال رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر بذلك‏.‏

وفى قبول الشاة المسمومة دليل على أكل طعام من يحل أكل طعامه دون أن يسأل عن أصله ولا يحترس من حيث إن كان فيه مع جواز ما قد ظهر إليه من السم، فدل ذلك على حمل الأمور على السلامة حتى يقوم دليل على غيرها، وكذلك حكم ما أبيع فى سوق المسلمين هو محمول على السلامة حتى يتبين خلافها‏.‏

وفى حديث المشرك المشعان جواز قبول هدايا المشركين، وقد تقدم كثير من معناه فى كتاب البيوع فى باب الشراء والبيع من المشركين وأهل الحرب، وفيه المواساة بالطعام عند المسغبة والشدة وتساوى الناس فى ذلك، وفى أكل أهل الجيش من الكبد على قلته علامة باهرة من علامات النبوة، وآية قاهرة من آيات النبى، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

باب الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ

وَقَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 8‏]‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ عليه السَّلام أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ سيراء، فَقَالَ‏:‏ كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ‏؟‏ إِنَّمَا يَلبسُها مَنْ لا خِلاق لَهُ فِى الآخِرة، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا‏)‏، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَسْمَاءَ، قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى، وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فِى عَهْدِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِىّ عليه السَّلام قُلْتُ‏:‏ إن أمِّى أتتنى وَهِىَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏صِلِى أُمَّكِ‏)‏‏.‏

وروى الطبرى، عن ابن الزبير، أن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 8‏]‏، نزلت فى أم أسماء بنت أبى بكر، وكان اسمها قتيلة بنت عبد العزيز‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ نزلت فى مشركى مكة من لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم من ديارهم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هو خطاب للمؤمنين الذين بقوا بمكة ولم يهاجروا‏.‏

وقال السدى‏:‏ كان هذا قبل أن يؤمر بقتال المشركين كافة، فاستشار المسلمون النبى صلى الله عليه وسلم فى قراباتهم من المشركين أن يبروهم ويصلوهم، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

فى تفسير الحسن قال قتادة وابن زيد‏:‏ ثم نسخ ذلك، ولا يجوز اليوم مهاداة المشركين ولا متاحفتهم إلا للأبوين خاصة؛ لأن الهدية فيها تأنيس للمهدى إليه، وإلطاف له، وتثبيت لمودته، وقد نهى الله عن التودد للمشركين بقوله‏:‏ ‏(‏لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ الآية‏.‏

وإنما بعث عمر بالحلة إلى أخيه المشرك بمكة على وجه التأليف له على الإسلام؛ لأنه كان طمع بإسلامه، وكان التألف على الإسلام حينئذ مباحًا، وقد تألف رسول الله صلى الله عليه وسلم صناديد قريش، وجعل الله للمؤلفة قلوبهم سهمًا فى الصدقات، وكذلك فعلت أسماء فى أمها؛ لأن الله قد أمر بصلة الآباء الكفار وبرهما بقوله‏:‏ ‏(‏وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 15‏]‏ الآية، فأمر تعالى بمصاحبة الأبوين المشركين فى الدنيا بالمعروف، وبترك طاعتهما فى معصية الله‏.‏

وروى البخارى فى حديث أسماء‏:‏ إن أمى أتتنى وهى راغبة، بالباء من الرغبة فى العطاء، ورواه أبو داود، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن أبى شعيب، حدثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة‏:‏ راغمة، بالميم‏.‏

وفسره الخطابى، قال‏:‏ راغمة، أى كارهة لإسلامى وهجرتى‏.‏

وقال بعض أصحابه‏:‏ معناه هاربة من قومها‏.‏

واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏، وأنشد للجعدى يمدح رجلاً‏:‏

كطود يلوذ بأكتافه *** عزيز المراغم والمهرب

فلو كانت أرادت به المضى لقالت‏:‏ مراغمة، لا راغمة، وكان أبو عمرو بن العلاء يتأول فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مراغمًا كثيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏، قال‏:‏ الخروج من العدو برغم أنفه، وراغبة بالباء أظهر فى معنى الحديث‏.‏

باب لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِى هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِى يَعُودُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِى قَيْئِهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَر، حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَبَاعَهُ الَّذِى هو عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة‏:‏ ليس لأحد أن يهب هبة ويرجع فيها على ظاهر حديث ابن عباس وعمر، روى ذلك عن طاوس والحسن، وهو قول الشافعى، وأحمد ابن حنبل، وأبى ثور‏.‏

وفيها قول آخر، روى عن عمر بن الخطاب‏:‏ أن من وهب لذى رحم فلا رجوع له، ومن وهب لغير ذى رحم، فله الرجوع إن لم يثب منها، وعن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أنه من وهب لذى رحم فله الرجوع إن لم يثب منها خلاف قول عمر‏.‏

وقال الثورى والكوفيون‏:‏ يرجع فيما وهبه لذى رحم غير محرم إذا كانت الهبة قائمة لم تستهلك، ولم تزد فى بدنها أو لم يثب منها مثل‏:‏ ابن عمه، وابن خاله، وأما إن وهب لذى رحم محرم وقبضوا الهبة، فليس له الرجوع فى شىء منها وهم‏:‏ ابنته، أو إخوته لأمه، أو جده أبو أمه، أو خاله، أو عمه، أو ابن أخيه، أو ابن أخته، أو بنوهما‏.‏

وتفسير الرحم المحرم هو من لو كان الموهوب له امرأة لم يحل للواهب نكاحها، وحكم الزوجين عندهم حكم ذى الرحم المحرم، ولا رجوع لواحد منهما فى هبته‏.‏

وقال مالك‏:‏ يجوز الرجوع فيما وهبه للثواب، وسواء وهبه لذى رحم محرم أو غير محرم، ولا يجوز له الرجوع فيما وهبه الله ولا لصلة رحم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج أهل المقالة الأولى بما روى شعبة وهشام، قالا‏:‏ حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏العائد فى هبته كالعائد فى قيئه‏)‏، قالوا‏:‏ فبان بهذا الحديث أن المراد العائد فى قيئه الرجل لا الكلب، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل الرجوع فى الهبة، كالرجوع فى القىء، وكان رجوع الرجل فى قيئه حرامًا عليه، كان كذلك رجوعه فى هبته‏.‏

وحجة الكوفيين قوله‏:‏ ‏(‏كالكلب يعود فى قيئه‏)‏، فبان بهذا الحديث أن العائد فى قيئه هو الكلب، والكلب غير متعبد بتحليل ولا بتحريم، فيكون المعنى العائد فى هبته كالعائد فى قدر كالقدر الذى يعود فيه الكلب، فلا يثبت بذلك منع الواهب من الرجوع فى هبته، فدل هذا أنه عَلَيْهِ السَّلام أراد تنزيه أمته عن أمثال الكلاب؛ لأنه أبطل أن يكون لهم الرجوع فى هباتهم، ويصلح الاحتجاج بهذه الحجة لمالك‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج أهل المقالة الأولى بحديث طاوس، عن ابن عباس، وابن عمر، أن النبى عليه السَّلام قال‏:‏ ‏(‏لا يحل لواهب أن يرجع فى هبته إلا الوالد لولده‏)‏، ولا دليل لهم فيه على تحريم الرجوع فى الهبة، فقد يجوز أن يكون النبى عليه السَّلام وصف ذلك الرجوع بأنه لا يحل؛ لتغليظه إياه لكراهته أن يكون أحد من أمته له مثل السوء‏.‏

وقد قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة على ذى مرة سوى‏)‏، فلم يكن ذلك على معنى أنها تحرم عليه كما تحرم على الغنى، ولكنها لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوى الحاجة والزمانة، فكذلك قوله‏:‏ ‏(‏لا يحل للواهب أن يرجع فى هبته‏)‏، إنما هو على أنه لا يحل له ذلك، كما تحل له الأشياء التى قد أحلها الله له‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ قوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏العائد فى هبته‏)‏، معناه الخصوص، وذلك لو أن قائلاً قال‏:‏ العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه، إلا أن يكون والدًا للموهوب له، أو تكون هبته لثواب يلتمسه، فإنه ليس له مثل السوء، لم يكن مختلاً فى كلامه، ولا مخطئًا فى منطقه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فبين لنا من يجوز له الرجوع فى هبته ومن لا يجوز، ومن المعنى بالذم فى ذلك‏.‏

قيل‏:‏ من وهب طلب ثواب إما باشتراط ذلك أو بغير اشتراط بعد أن يكون الأغلب من أمر الواهب والموهوب له أن مثله يهب مثله طلب الثواب منه، فله الرجوع‏.‏

وأما الواهب لله يطلب الأجر كالواهب الغنى للفقير المحتاج، أو طلب صلة رحم كالواهب يهب لأحد أبويه، أو أخيه، أو أخته، أو قريب له قريب القرابة يريد بذلك صلة رحمه، فلا رجوع له، فهذا المعنى بالذم بقوله‏:‏ ‏(‏كالكلب يعود فى قيئه‏)‏‏.‏

وقد أشار المهلب إلى قريب من هذا المعنى، وقال‏:‏ وعلى هذا التأويل لا تتعارض الأحاديث، فيكون معنى قوله فى حديث عمر‏:‏ ‏(‏العائد فى صدقته‏)‏، مفسرًا لقوله فى حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏العائد فى هبته‏)‏، أن الهبة التى تجرى مجرى الصدقة والصلة، لا يجوز الرجوع فيها، وإنما يرجع فيما خرج من هذا المعنى وأريد به الثواب، وقد تقدم فى كتاب الزكاة واختلاف أهل العلم فى شراء الرجل صدقته فى باب هل يشترى الرجل صدقته‏؟‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد بين ما قلنا ما روى عن عمر بن الخطاب، روى مالك، عن داود ابن الحصين، عن أبى غطفان بن ظريف، عن مروان بن الحكم، أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ من وهب لصلة رحم أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع بها، إن لم يرض منها، فهذا عمر بن الخطاب فرق بين الهبات والصدقات، فجعل الصدقات لله لا يرجع فيها، وجعل الهبات على ضربين، فضرب منها لصلة الأرحام، فرد ذلك إلى حكم الصدقات لله، ومنع الواهب من الرجوع فيها، وضرب منها جعل فيه الرجوع للواهب ما لم يرض منه‏.‏

بَاب

- فيه‏:‏ ‏[‏عبد الله بن عبد الله بن أبى مليكة‏]‏، أَنَّ بَنِى صُهَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا، فَقَالَ مَرْوَانُ‏:‏ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ ابْنُ عُمَرَ، فَدَعَاهُ، فَشَهِدَ لأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ‏.‏

إنما ذكر هذا الحديث فى كتاب الهبة؛ لأن فيه هبة النبى صلى الله عليه وسلم البيتين والحجرة لصهيب‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قضى مروان بشهادة ابن عمر وحده لبنى صهيب، وذلك خلاف السنة‏؟‏ قيل‏:‏ إن مروان إنما حكم بشهادة ابن عمر مع يمين المطالب على ما جاء فى السنة من القضاء باليمين مع الشاهد، ولم يذكر ذلك فى الحديث‏.‏

باب مَا قِيلَ فِى الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى

- فيه‏:‏ جَابِر، أن النَّبِىّ عليه السَّلام قَضَى بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏الْعُمْرَى جَائِزَةٌ‏)‏، وَجَابِر مثله‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ تأويل العمرى أن يقول الرجل للرجل‏:‏ هذه الدار لك عمرك، أو يقول‏:‏ هذه الدار لك عمرى، وأصله مأخوذ من العمر‏.‏

اختلف العلماء فى العمرى، فقال مالك‏:‏ إذا قال‏:‏ أعمرتك دارى أو ضيعتى، فإنه قد وهب له الانتفاع بذلك مدة حياته، فإذا مات رجعت الرقبة إلى المالك وهو المعمر، وإذا قال‏:‏ قد أعمرتك وعقبك، فإنه قد وهب له ولعقبه الانتفاع ما بقى منهم إنسان، فإذا انقضوا رجعت الرقبة إلى المالك المعمر؛ لأنه وهب له المنفعة، ولم يهب له الرقبة‏.‏

وروى مثله عن القاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط، وهو أحد قولى الشافعى‏.‏

وقال الكوفيون والشافعى فى أحد قوليه وأحمد بن حنبل‏:‏ العمرى تصير ملكًا للمعمر ولورثته، ولا تعود ملكًا إلى المعطى أبدًا‏.‏

واحتجوا بما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، عن جابر، أن النبى عليه السَّلام قال‏:‏ ‏(‏أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها أبدًا؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث‏.‏

وقالوا‏:‏ إن مالكًا روى هذا الحديث وخالفه، قال‏:‏ ليس عليه العمل ووددت أنه محى، واحتج أصحاب مالك بأن الإعمار عند العرب والإفقار والإسكان والمنحة والعارية والإعراء، إنما هو تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، وللإنسان أن ينقل منفعة الشىء الذى يملك إلى غيره مدة معلومة ومجهولة إذا كان ذلك على غير عوض؛ لأن ذلك فعل خير ومعروف، ولا يجوز أن يخرج شىء عن ملك مالكه إلا بيقين ودليل على صحته‏.‏

وقد قال القاسم بن محمد‏:‏ ما أدركت الناس إلا على شروطهم فيما أعطوا، والدليل على أن العمرى لا تقتضى نقل الملك عن الرقبة أنه لو قال‏:‏ بعتك شهرًا أو تصدقت بها عليك شهرًا، وأراد نقل ملك الرقبة لم يصح، كذلك إذا قال‏:‏ أعمرتك؛ لأنه علقه بوقت مقيد، وهو عمره‏.‏

وأما حديث أبى سلمة الذى احتجوا به، فهو حجة عليهم، وذلك أن المعمر إذا أعمر زيدًا وعقبه، فليس له أن يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عقبه، والكوفى خالف هذا الحديث، ولم يقل بظاهره كما زعم؛ لأنه يقول‏:‏ إن للمعمر بيع الشىء الذى أعمره، ومنع ورثته منه، وهذا خلاف شرط المعمر؛ لأنه أعطى عقبه كما أعطاه، وليس هو بأولى بالعطية من عقبه، وهو معنى قوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث‏)‏، يعنى التداول للمنفعة لا ميراث الرقبة‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 27‏]‏، فلم يملكوها بالمواريث التى فرض الله، وإنما أخذوا منهم ما كان فى أيديهم، فكذلك العقب فى العمرى يأخذ ما كان لأبيه بعطية المالك‏.‏

واختلفوا فى الرقبى، فأجازها أبو يوسف والشافعى كأنها وصية عندهم‏.‏

وقال مالك، والكوفيون، ومحمد‏:‏ لا تجوز، واحتجوا بما رواه حبيب بن أبى ثابت، عن ابن عمر، أن النبى عليه السَّلام نهى عن الرقبى، وقال‏:‏ ‏(‏من أرقب رقبى فهى له‏)‏، والرقبى عند مالك‏:‏ أن يقول للرجل‏:‏ إن مت قبلك فدارى لك، وإن مت قبلى فدارك لى، فكأن كل واحد منهما يقصد إلى عوض لا يدرى هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه، وليس كذلك العمرى؛ لأن المعمر لا يقصد عوضًا عن الذى أخرج عن يده‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب العارية

باب مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الْفَرَسَ وَالدَّابَّةَ وَغَيْرَهما

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا مِنْ أَبِى طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ‏:‏ الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى عارية الحيوان والعقار وما لا يعاب عليه، فروى ابن القاسم، عن مالك، أن من استعار حيوانًا أو غيره مما لا يعاب عليه فتلف عنده، فهو مصدق فى تلفه، ولا يضمنه إلا بالتعدى، وهو قول الكوفيين والأوزاعى‏.‏

وقال عطاء‏:‏ العارية مضمونة على كل حال، كانت مما لا يعاب عليه أم لا، وسواء تعدى فيها أو لم يتعد، وبه قال الشافعى، وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما رواه إسماعيل ابن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولانى، قال‏:‏ سمعت أبا أمامة الباهلى أنه سمع النبى عليه السَّلام فى حجة الوداع يقول‏:‏ ‏(‏العارية مؤداة، والزعيم غارم‏)‏‏.‏

وروى أن ابن عباس وأبا هريرة ضمنا العارية‏.‏

والحجة للقول الأول أن معنى قوله‏:‏ ‏(‏العارية مؤداة‏)‏، هو كمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن عزمها، فكذلك العارية إذا علم أنها قد تلفت؛ لأنه لم يأخذها على الضمان، ولا هو متعد بالأخذ، فهى أمانة عند المستعير، فإذا تلفت بتعديه عليها، لزمه قيمتها بجنايته عليها، بمنزلة ما لو تعدى عليها وهى فى يد ربها، فعليه قيمتها، وروى عن على وابن مسعود أنه ليس على مؤتمن ضمان‏.‏

وممن كان لا يضمن المستعير الحسن والنخعى، وقال شريح‏:‏ ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان، وكتب عمر بن عبد العزيز فى العارية‏:‏ لا يضمن صاحبها إلا أن يطلع منه على خيانة‏.‏

باب الاسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ كَانَ عَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَتِ‏:‏ ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِى انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِى الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِى مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلاَ أَرْسَلَتْ إِلَىَّ تَسْتَعِيرُهُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ عارية الثياب فى العرس من فعل المعروف والعمل الجارى عندهم، وأنه مرغب فى أجره؛ لأن عائشة لم تمنع منه أحدًا‏.‏

وفيه أن المرأة قد تلبس فى بيتها ما خشن من الثياب، وما لا يلبسه بعض الخدم، والقطر ثياب من غليظ القطن، وتقين يعنى تزين‏.‏

قال صاحب الأفعال‏:‏ قان الشىء قيانة‏:‏ أصلحه، والقينة‏:‏ الأمة، ويقال‏:‏ قن إياك عند الحداد، أى أصلحه، ومنه قيل للحداد‏:‏ قين‏.‏

قال أبو عمرو‏:‏ أصله من إقيان البيت إقيانًا إذا حسن، ومنه قيل للمرأة‏:‏ مقينة؛ لأنها تزين‏.‏

قال غيره‏:‏ القينة الماشطة، والقينة المغنية، والقينة الجارية، وكل صانع عند العرب قين‏.‏

واختلف العلماء فى عارية الثياب والعروض وما يعاب عليه، فقال ابن القاسم فى المدونة‏:‏ من استعار ما يعاب عليه من ثوب أو غيره فهلك عنده، فهو له ضامن ولا يقبل قوله فى هلاكه إلا أن يكون هلاكه ظاهرًا معروفًا، تقوم له به بينة من غير تفريط ولا تضييع فلا يضمن‏.‏

وقال أشهب‏:‏ يضمن، وإن أقام بينة أنه هلك بغير سببه، لحديث صفوان فى السلاح، وهو قول الشافعى قال‏:‏ كل عارية مضمونة ما يعاب عليه وما لا يعاب، وسواء تعدى فى تلفه أم لا، وقد تقدم فى الباب قبل هذا من قال بهذا القول‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إنها أمانة على كل وجه، ولا يضمن ما تلف إلا بتعدى المستعير، ويقبل قوله فى تلفها، هذا قول الحسن البصرى والنخعى، وبه قال الأوزاعى والثورى وأبو حنيفة وأصحابه‏.‏

وروى عن عمر وعلى وابن مسعود أنه لا ضمان فى العارية، واحتج الشافعى وأحمد بحديث صفوان بن أمية، أن النبى صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعًا يوم حنين، فقال له‏:‏ يا محمد، مضمونة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏مضمونة‏)‏، فضاع بعضها، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن شئت غرمناها لك‏)‏، فقال‏:‏ لأنا أرغب فى الإسلام من ذلك يا رسول الله‏.‏

رواه ابن أبى مليكة، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه، وروى قتادة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، وقال‏:‏ أعارية مضمونة أو عارية مؤداة‏؟‏ فقال‏:‏ بل مؤداة، وهذا ينفى الضمان، وحديث صفوان قد اضطرب جدًا فلا حجة فيه‏.‏

وأيضًا‏:‏ فلو وجب على النبى صلى الله عليه وسلم الضمان لم يقل له‏:‏ ‏(‏إن شئت غرمناها لك‏)‏، واحتجوا بحديث القصعة التى أهدتها بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم بطعام فكسرتها عائشة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏غارت أمكم، وغرم القصعة‏)‏‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ اختلفت الألفاظ فى خبر صفوان، فاستعملنا ما ورد منها بالضمان فيما يعاب عليه كما كان فى سلاح صفوان والقصعة، واستعملنا ما ورد بإسقاط الضمان فيما لا يعاب عليه؛ لأنه يمكن كتمانه، فنكون قد استعملنا كل خبر على فائدة غير فائدة صاحبه، ولا يمكن المخالفين استعمالها إلا على معنى واحد فيما يعاب عليه من العارية وما لا يعاب عليه، أما فى وجوب الضمان على قول الشافعى، أو إسقاطه على قول أهل العراق، فاستعمالنا أولى لكثرة الفوائد‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما ألزمته ملك الضمان فيما يعاب عليه؛ لئلا يدعى المستعير هلاك العارية فيتطرق بذلك إلى أخذ مال غيره‏.‏

باب فَضْلِ الْمَنِيحَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِىُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِىُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ‏)‏‏.‏

وقال إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ‏:‏ نِعْمَ الصَّدَقَةُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىء، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ، وَيَكْفُوهُمُ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ، كَانَتْ أُمَّ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، وَأَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عِذَاقًا، فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلاَتَهُ، أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمِ الَّتِى كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ‏.‏

وقال يُونُسَ مرة‏:‏ ‏(‏مِنْ خَالِصِهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إِلاَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ‏)‏، قَالَ حَسَّانُ‏:‏ فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَغيره، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ أَرَضِينَ، فَقَالُوا‏:‏ نُؤَاجِرُهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيدٍ، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ عندك مِنْ إِبِلٍ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَتُعْطِى صَدَقَتَهَا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا‏؟‏‏)‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أَرْضٍ تَهْتَزُّ بزَرْعها، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لِمَنْ هَذِهِ‏؟‏‏)‏ فَقَالُوا‏:‏ اكْتَرَاهَا فُلاَنٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا‏)‏‏.‏

المنيحة هى الناقة والشاة ذات الدر تعار للبنها، ثم ترد إلى أهلها، والمنحة عند العرب كالإفقار، والعمرى، والعارية، وهى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، ألا ترى قوله فى حديث أنس‏:‏ ‏(‏فلما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم وثمارهم‏.‏

وقوله فى حديث جابر‏:‏ ‏(‏من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه‏)‏، إنما يريد يهبه الانتفاع بها ولا يكريها منه بأجر، يبين ذلك قوله فى حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏أما إنه لو منحها إياه لكان خيرًا له من أن يأخذ عليها أجرًا‏)‏‏.‏

وقوله فى حديث أبى سعيد بعد أن سأل النبى صلى الله عليه وسلم صاحب الإبل إن كأن يؤدى صدقتها، قال‏:‏ ‏(‏فهل تمنح منها‏؟‏‏)‏، فدل أن المنحة غير إعطاء الرقاب؛ لأن إعطاء الرقاب قد تضمنته الزكاة، فدلت هذه الآثار على أن المنيحة التى حض النبى صلى الله عليه وسلم أمته عليها من الأرض والثمار والأنعام، هى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب‏.‏

واللقحة الناقة التى لها لبن يحلب، والجمع لقاح، والصفى الغزيرة اللبن‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏تغدو بإناء وتروح بإناء‏)‏، يعنى أنها تغدو بأجر حلبها فى الغدو والرواح، والسنة أن ترد المنيحة إلى أهلها إذا استغنى عنها، كما رد النبى عليه السَّلام إلى أم سليم عذاقها، وكما رد المهاجرون للأنصار منائحهم حين أغناهم الله بخيبر، والمنحة والعارية والإفقار وغير ذلك هو من باب المشاركة والصلة، لا من باب الصدقة؛ لأنها لو كانت من باب الصدقة لما حلت للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكانت عليه حرامًا، ولو كان فى أخذها غضاضة لما قبلها، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

وأما قوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز‏)‏، ولم يذكر الأربعين خصلة فى الحديث، ومعلوم أنه كان عالمًا بها كلها لا محالة، إلا لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك والله أعلم خشية أن يكون التعيين لها والترغيب فيها زهدًا فى غيرها من أبواب المعروف وسبل الخير، وقد جاء عنه عليه السَّلام من الحض على أبواب من أبواب الخير والبر ما لا يحصى كثرة، وليس قول حسان بن عطية‏:‏ فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة، بمانع أن يجدها غيره، وقد بلغنى عن بعض أهل عصرنا أنه طلبها فى الأحاديث، فوجد حسابها يبلغ أزيد من أربعين خصلة، فمنها‏:‏ أن رجلاً سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة، فقال له عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ لئن كنت قصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، فذكر له عتاقات، ثم قال له‏:‏ والمنحة الركوب الغزيرة الدر، والفىء على ذى الرحم القاطع، فإن لم تطق ذلك فاطعم الجائع، واسق الظمآن، فهذه ثلاث خصال أعلاهن المنحة، وليس الفىء على ذى الرحم منها؛ لأنها أفضل من منيحة العنز، وإنما شرط أربعين خصلة أعلاهن منيحة العنز‏.‏

ومنها السلام على من لقيت، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ السلام عليك، كتبت له عشر حسنات، ومن زاد‏:‏ ورحمة الله، كتبت له عشرون، ومن زاد‏:‏ وبركاته، كتبت له ثلاثون حسنة‏)‏، وتشميت العاطس، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏ثلاث تثبت لك الود فى صدر أخيك‏:‏ إحداهن تشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏أن رجلاً أخر غصن شوك من الطريق، فشكر الله له فغفر له‏)‏‏.‏

وإعانة الصانع، والصنعة للأخرق، وإعطاء صلة الحبل، وإعطاء شسع النعل، وأن يؤنس الوحشان، وسأل رجل النبى صلى الله عليه وسلم عن المعروف، فقال‏:‏ ‏(‏لا تحقرن منه شيئًا ولو شسع النعل، ولو أن يعطى الحبل، ولو أن يؤنس الوحشان‏)‏‏.‏

وقال أبو سليمان الخطابى‏:‏ وقيل فى تأويل أنس الوحشان وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أنه أريد به المنقطع بأرض الفلاة، المستوحش بها تحمله فتبلغه مكان الأنس، والأول أشبه‏.‏

وكشف الكربة عن مسلم، قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏من كشف عن أخيه كربة، كشف الله عنه كربة من كربات يوم القيامة‏)‏‏.‏

وكون المرء فى حاجة أخيه، قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الله فى عون العبد مادام العبد فى عون أخيه‏)‏‏.‏

وستر المسلم، قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة‏)‏‏.‏

والتفسح لأخيك فى المجلس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فافسحوا يفسح الله لكم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏، وقال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏ثلاث تثبت لك الود فى صدر أخيك‏:‏ إحداهن أن توسع له فى المجلس‏)‏‏.‏

وإدخال السرور على المسلم، ونصر المظلوم، والأخذ على يدى الظالم، قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏)‏‏.‏

والدلالة على الخير، وقد قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الدال على الخير كفاعله‏)‏‏.‏

والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 114‏]‏ الآية، وقول طيب ترد به المسكين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 263‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏ الآية، وقال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة‏)‏‏.‏

وأن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى، أمر به عَلَيْهِ السَّلام الذى سأله عن المعروف، وغرس المسلم وزرعه، قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة‏)‏‏.‏

والهدية إلى الجار، قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏يا نساء المؤمنات، لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو فرسن شاة محرقًا‏)‏‏.‏

والشفاعة للمسلم، فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 85‏]‏، وقال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏اشفعوا تؤجروا‏)‏‏.‏

ورحمة عزيز ذل، وغنى افتقر، وعالم بين جهال، روى ذلك فى حديث عن النبى‏.‏

وعيادة المرضى، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏عائد المريض على مخارف الجنة، وعائد المريض يخوض فى الرحمة، فإذا جلس عنده استقرت به الرحمة‏)‏‏.‏

والرد على من يغتاب أخاك المسلم، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏من حمى مؤمنًا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكًا يوم القيامة يحمى لحمه من النار‏)‏‏.‏

ومصافحة المسلم، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏لا يصافح مسلم مسلمًا فتزول يده من يده حتى يغفر لهما‏)‏، وفى حديث آخر‏:‏ ‏(‏تصافحوا يذهب الغل‏)‏‏.‏

والتحاب فى الله، والتجالس فى الله، والتزاور فى الله، والتبادل فى الله، قال الله تعالى‏:‏ وجبت محبتى لأصحاب هذه الأعمال الصالحة، وعون الرجل الرجل فى دابته يحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر النصح لكل مسلم‏.‏

باب إِذَا قَالَ‏:‏ أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ هَذِهِ عَارِيَّةٌ، وَإِنْ قَالَ‏:‏ كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ هِبَةٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَأَعْطَوْهَا هَاجَرَ، فَرَجَعَتْ، فَقَالَتْ‏:‏ أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً‏)‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ‏)‏‏.‏

لا أعلم خلافًا بين العلماء أنه إذا قال له‏:‏ أخدمتك هذه الجارية، أو هذا العبد أنه قد وهب له خدمته لا رقبته، وأن الإخدام لا يقتضى تمليك الرقبة عند العرب، كما أن الإسكان لا يقتضى تمليك رقبة الدار، وليس ما استدل به البخارى من قوله‏:‏ فأخدمها هاجر، بدليل على الهبة، وإنما تصح الهبة فى الحديث من قوله‏:‏ ‏(‏فأعطوها هاجر‏)‏، فكانت عطية تامة‏.‏

واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال‏:‏ وهبت خدمة عبدى لفلان، فقال ابن القاسم‏:‏ يخدمه حياة العبد، فإن مات فلان فلورثته خدمة العبد ما بقى العبد، إلا أن يستدل من قوله أنه أراد حياة المخدم، ولا تكون هبة لرقبة العبد، وقال أشهب‏:‏ إذا قال‏:‏ وهبت خدمة عبدى لفلان، فإنه يحمل على أنه حياة فلان، ولو كانت حياة العبد كانت هبة لرقبته‏.‏

وقول ابن القاسم أصح من قول أشهب؛ لأنه لا يفهم من هبة الخدمة هبة الرقبة، والأموال لا تستباح إلا بيقين‏.‏

ولم يختلف العلماء أنه إذا قال‏:‏ كسوتك هذا الثوب مدة يسميها فله شرطه، فإن لم يذكر أجلاً فهو هبة؛ لأن لفظ الكسوة يقتضى الهبة للثوب، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، ولم تختلف الأمة أن ذلك تمليك للطعام والثياب‏.‏

باب إِذَا حَمَلَ رَجُلاً عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا‏.‏

- فيه‏:‏ عُمَرُ، إنى حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ تَشْتَرِهِ، وَلاَ تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ‏)‏‏.‏

لا خلاف بين العلماء أن العمرى إذا قبضها المعمر لا يجوز الرجوع فيها، وكذلك الصدقة لا يجوز لأحد أن يرجع فى صدقته؛ لأنه أخرجها لله تعالى، فكذلك الحمل على الخيل فى سبيل الله لا رجوع فيه؛ لأنه صدقة لله، فما كان من الحمل على الخيل تمليكًا للمحمول عليه بقوله‏:‏ هو لك، فهو كالصدقة المبتولة إذا بضت أنها ملك للمتصدق عليه، وما كان منه تحبيسًا فى سبيل الله فهو كالأوقاف لا يجوز الرجوع فيه عند جمهور العلماء‏.‏

وخالف ذلك أبو حنيفة، وجعل الحبس باطلاً فى كل شىء، ولهذا قال البخارى‏:‏ وقال بعض الناس‏:‏ له أن يرجع فيها؛ لأنه عنده حبس باطل راجع إلى صاحبه‏.‏

وفى حديث عمر جواز تحبيس الخيل، وهو يرد قول أبى حنيفة، ولا يخلو الفرس الذى حمل عليه عمر وأراد شراءه من أن يكون حبسه فى سبيل الله، أو حمل عليه وجعله ملكًا للمحمول عليه، فإن كان حبسًا فلا يجوز بيعه عند العلماء إلا أن يضيع أو يعجز عن اللحاق بالخيل، فيجوز حينئذ بيعه ووضع ثمنه فى فرس عتيق إن وجده، وإلا أعان به فى مثل ذلك، وإن كان عمر قد أمضى الفرس للذى حمله عليه وملكه إياه، فهو ملك للمتصدق عليه كالصدقة المبتولة، فجاز له التصرف فيه وبيعه من الذى حمله عليه، كما يجوز له بيعه من غيره، وإنما أمره عَلَيْهِ السَّلام بتركه تنزهًا لا إيجابًا، وقد تقدم فى كتاب الجهاد فى باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فرآها تباع اختلاف العلماء فيمن حمل على فرس فى سبيل الله، ولم يقل‏:‏ هو حبس فى سبيل الله، فأغنى عن إعادته، وسيأتى فى كتاب الأوقاف اختلافهم فى جواز تحبيس الحيوان فى باب وقف الدواب والكراع، إن شاء الله‏.‏